افاق جديدة في شخصية القائد بين الواقعية والمثالية
الثلاثاء 20 يناير 2004 16:51
الدكتور توفيق التونجي





ان الخط الرفيع الفاصل بين الدكتاتور والقائد المثالي لعله مشابه لذلك الذي يفصل بين الداهية والمجنون ورغم ان العلم الحديث يقر بان البحث والسؤال المستمر والتقصي هم افضل طريقة للتعلم عند الانسان وتعتبر تلك القوة المحركة الابداعية فيه. التعلم حالة مستمرة ودائمية ولا يرتبط قط بزمن او مكان معين ويتعلم المرء من الاخرين اذ ان هناك خزين معلوماتي كبير في تجارب الاخرين لا يمكن للمرء قرائتها في كتاب اذا ان معضم تلك التجارب لا تدون عادة بل تروى.
القائد اما ان ياتي بطريق ديمقراطي عن طريق الانتخاب او يفرض احدهم نفسه وعلى الاكثر بالقوة على الاخرين فيعين نفسه بنفسه كما كان يفعل بعض الاباطرة والملوك والطغاة. وهناك الطريقة الاسلامية في الحصول على المبايعة على شخص معين او عدة شخصيات تطرح اسمائهم ويتم اختيار الافضل منهم للحكم وقد جرت العادة على هذا النوع من الاختيار كتجربة اسلامية رائدة تغيرت في تطبيقها ابان الحكم الاموي وذلك بعد اعتبار الخلافة وراثية و استمر العمل به في الخلافة العباسية واثناء الحكم العثماني وفي جميع الانظمة الملكية لحد يومنا هذا.
ان من اهم صفات وميزات القيادة هو مبدأ السلطة اي ان القائد مخول من قبل الشعب وينوبهم في اداء وظيفة الحكم واداء مهماته المصرحة والمخولة بها وتحت ضوء القانون الاساسي للبلاد وسيادته. اي انه في واقع الامر ان القائد يقاد عن طريق الشعب الذي ينتخبه و يوكله لقيادة البلاد وادارة اموره نيابة عنهم لحين ولمدة زمنيه معينة قد يعاد الانتخاب او يعدل عنه.
ان ذلك المبدأ الاساسي يقابله خصائص معينة عند القائد يجب توفرها وبدرجات معينة حيث ان مجرد وجود الشخص في سدة القيادة يؤدي الى تغيرات جوهرية في شخصيته تصل الى درجة الذود عن كرسي الحكم بشتى الوسائل وصولا الى العنف في الدكتاتوريات وكما قال الامام علي كرم الله وجهه " من ملك أستاثر" في اشارة الى سطوة السلطة وسدة الحكم على الانسان. الخصائص التي يجب توفرها عند القائد تاتي بمعرفته بدخائل نفسه بالكامل وماذا يريد ومن اين اتى والى اين مساره واين مسكنه ومكانه ومن اجل كل ذلك هو بحاجة الى العلم والمعرفة فالجاهل قد يتمكن من ان يقود بجهالته الامة الى الدمار والخراب والحروب والنزاعات والخصامات والتصادم بين الرعية والجيران، هذا ومن خصائص الحكم" العدالة" فالقائد عليه رؤيه الرعية بمنظار واحد متساوين لا يعلوا احدهم على الاخر احرار جميعا.
انه يكون عالما علم اليقين ما يفعل وعلى ان لا يقوده اهوائه وغرائزه وان يتمتع بالروية والحكمة والصبر يحاور الناس ويستمع لمن يعطيه النصيحةالصالحة. لا يتسرع في اصدار الاحكام و يتشاور مع الاخرين ولا يتسرع في اصدار قرارات ارتجاليه وعشوائية رغم انه يجب ان يتاخذ قرارات مهمة وربما في قناعة نفسه لا يؤمن بها ولا يريدها ولكن للسلطة احكام وقواعد تجبر القائد على الرضوخ الى تلك الاحكام. القائد يتوجب عليه ان يكون ممن يثقون بانفسهم وبالقضية المركزية التي يناضلون من اجلها "عزة الوطن وكرامة المواطن" وليس المجد الشخصي له. كنت قد اشرت الى عدالة الحاكم ولا يمكن الا ذكر الفاروق" عمر بين الخطاب" رضوان الله عليه ونحن نذكر خصال الحاكم الذي قال: " متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا" في اشارة الى حقوق المواطن وحقه في العيش بحرية (الناس يطلق على الذكور والاناث) وهناك اقوال واعمال اخرى للخليفة العادل تؤكد عدله بين الرعية اينما كانوا. هذا وهناك العديد من امثلة الحكم والحاكم والقاضي العادل في التراث الاسلامي.
الحاكم الذي يحب شعبه وقضية شعبه هو حاجة وضرورة، ذلك"القائد" الانسان الكريم يكون بطبعه محبا للناس ويعرفهم عن قرب وعلى معرفة بامالهم وحاجاتهم رغم ان هناك وعلى الدوام مسافة بين الحاكم والرعية يفصل بينهم كنتيجة مباشرة لقواعد اداء مهام السلطة من ناحية ووجود قوى الشر في كل زمان ومكان يتربصون بعيونهم الحاقدة ويخططون في الظلام.
ان وعي الحاكم يدفعه بالعمل نحو افاق مستقبلية تحذوه نظرته الواسعة للامور والاهداف السامية العظيمة. ان كل ذلك يحتم عليه تقديم التضحيات والتنازلات عن الكثير من الامور البديهية للمواطن العادي باعتباره شخصية رسمية يؤدي مهمة عامة. ان نشوة الحكم والسلطة اذا اخذت بالمرء لتراه عبدا لتلك النشوة فاقدا للبصر والبصيرة حيث تقوده لاحقا الى الهلاك المحتوم والابتعاد عن الناس متحولا بمرور الزمن الى طاغية مبتعدا من الاهداف الاساسية لوجوده في السلطة ومتناسيا القضية "الوطن والمواطن" في تكبر متناسيا خصلة اساسية في الحاكم الا وهو تواضعه والرحمة على الناس ليجد رحمة الله في السماء، يخاف عليهم من كل مكروه ولا يرمي بهم بالتهلكه فالعدل اساس الملك.
القائد الناضج الذي يتحمل المسؤلية الملقاة على عاتقه يعرف بانه وهو في منصبه وكما اسلفت لا يعدو ان يكون الا وكيلا للشعب و سوف يترك الكرسي بامرهم يوما فتراه يحترم الاخرين ويعطي للجميع دورا في الحياة العامة ويرى في المعارضين قوى ايجابية يتشاور معهم في حوار حضاري يؤدي في النهاية الى الوصول الى افضل النتائج.
هذه الشخصية المثالية البعيدة كل البعد من سوء الاستفادة من المنصب والسلطة يتحمل المسؤولية الملقاة على عاتقه باكمل الاوجه والادمان على السلطة كادمان المتعاطين على الخمور او على الامور الاخرى يفقد فيه المرء سيطرته على نفسه ويبتعد عن المسؤولية يرحلون عاجلا ام اجلا تاركين بلادهم في خراب ودمار.
اذن فالسلطة بحاجة الى انسان طبيعي يحمل بين صفاته صفات الحاكم العادل وذو قابلية واستيعاب كبيرين يؤهلانه لتحمل اعباء المسؤولية العامة. ان واقعية الحاكم من الامور المهمة في ادائه لواجبه فلو كان الحاكم مثلا من الحالمين واللاهثين وراء الخيال والسراب لخربت الديار. اما الواقعي رصين الفكر حكيم العقل والرأى موسع المعرفة لا يبقى تحت تاثير الاخرين ذوو شخصية قوية لا يحتاج الى مداحين وشعراء.
ستبقى البشرية تعاني في بحثها عن الحاكم الذي ينطبق عليه كل تلك الصفات ليسلمه صولجان الحكم ويتربع على كرسي الحكم رغم ان الكمال لله سبحانه وتعالى. ربما نحن كذلك الفيلسوف الذي ما برح الا يدور في ازقة البلاد وحاراتها باحثا عن "الحقيقة" يضي دربه مصباح زيتها شرقي.

السويد

خاص بأصداء

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الناقد العراقي